فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي باب الجهاد كذلك، رفع اللّه الحرج عن الضعفاء والمرضى، وأصحاب العاهات، ونحوهم، وأعفاهم من الجهاد بأنفسهم.. {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [91: التوبة]..
وقل مثل هذا في جميع أوامر الشريعة وأحكامها.. إنها شريعة قائمة على اليسر ورفع الحرج، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [16: التغابن] أي في حدود ما تحتمل أنفسكم، وما تتسع له طاقاتكم..
وفي الحديث الشريف: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».. وفي الحديث أيضا: «إن هذا الدين ذلول لا يركب إلا ذلولا» أي إن هذا الدين سمح سهل، لا ينتفع به إلا إذا أخذ سمحا سهلا، تتقبله النفوس، وتنشرح له الصدور.. شأنه في هذا شأن الطعام، لا يفيد منه الجسم، إلا إذا طابت له النفس، واشتهته، واستساغت طعمه، واستطابت مضغه وبلعه..
وفي الحديث أيضا: «لا تبغّض إلى نفسك عبادة اللّه» وذلك بالقسوة عليها، وبحملها على ما هو شاق، وبين يديها القريب الميسور! وفي الحديث: «ما خيّر الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه بين أمرين، إلا اختار أيسرهما»..
ـ وقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم}.. الملة، الشريعة، وهي منصوبة على الإغراء.. أي الزموا هذه الملة، ملة أبيكم إبراهيم.
ـ وقوله تعالى: {هُوَ سَمَاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} أي أنه هو الذي طلب من اللّه أن تكون من ذريته تلك الأمة المسلمة التي هى أنتم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [128: البقرة].
فالداعيان، هما إبراهيم وإسماعيل، ودعوتهما، هى أن يكونا مسلمين للّه وأن يجعل منهما- أي من إبراهيم، وإسماعيل- أمة مسلمة.. وأن يبعث فيهم رسولا منهم كما يقول اللّه تعالى على لسانيهما بعد ذلك: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [129: البقرة]..
فالنبي صلى الله عليه وسلم، هو دعوة إبراهيم - كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم».. وكذلك أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل، هم الأمة المسلمة، وهم الدعوة المستجابة لإبراهيم..
قوله تعالى: {وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شهداء عَلَى النَّاسِ}.
الإشارة هنا بهذا، إلى قوله تعالى: {هُوَ اجْتَباكُمْ وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي وفي هذا الاجتباء، ورفع الحرج عنكم، سبب لأن يكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس..
وشهادة الرسول على أمته، هو أن يشهد بأنه بلّغ رسالته فيهم، ودعاهم إلى الإيمان باللّه، وإلى الاستقامة على ما شرع اللّه لهم من عبادات وأحكام.. وهو بهذه الشهادة يدين كلّ من أبى وقصّر..
أما شهادة هذه الأمة على الناس، فهى مثل شهادة الرسول عليهم..
أي أنهم بمنزلة الرسول في الناس، يدعونهم إلى اللّه، ويبلغونهم رسالة الإسلام، وهم بهذه الشهادة يدينون كلّ من أبى الاستجابة لهم، والدخول في دين اللّه معهم..
وهذه المنزلة التي رفع اللّه بها قدر هذه الأمة، وأعلى بها شأنها في الناس، وجعل لها بها ما للرسل في أقوامهم- هذه المنزلة العالية الرفيعة، هى أمانة، لا يحملها إلا أولو العزم من الناس، ومن هنا كان واجبا على كل مسلم أن ينهض بحمل هذا العبء، وأن يرى الناس منه، في قوله وعمله، من استقامة الخلق، واعتدال السلوك ما يرى الناس في الأنبياء والرسل..
فيا ليت قومى يعلمون هذا الشرف العظيم، الذي قلده اللّه سبحانه وتعالى إياهم، وهذا الواجب الكريم الذي أناطه بهم، وهذا المقام الرفيع الذي أقامهم على الناس فيه..!!
إن أي مسلم لا يرى- بعمله، وعلمه، وقدره في الناس- أنه في مكان القيادة من المجتمع الإنسانى، فهو ليس من الإسلام في شيء.. إنه لن يكون في المسلمين الذين يشهدون على الناس يوم القيامة.
وقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
هو تذكير برسالة المسلم، وبتلك المؤهلات التي يحقق بها هذه الرسالة، ويكون من الشهداء على الناس.. وذلك بأن يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، وأن يعتصم باللّه، ويجعل وجوده كلّه للّه، وباللّه.. وذلك هو الذي يضمن له علوّا، ونصرا وعزّا.. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}.
لما كان خطاب المشركين فاتحًا لهذه السورة وشاغلًا لمعظمها عدَا ما وقع اعتراضًا في خلال ذلك، فقد خوطب المشركون بـ {يا أيها الناس} أربع مرات، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم، خُتمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يُصلح أعمالهم وينوّه بشأنهم.
وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال.
والمراد بالركوع والسجود الصلوات.
وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية.
وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله: {واعبدوا ربكم} تنبيه على أنّ الصلاة عماد الدين.
والمراد بالعبادة: ما أمر الله النّاس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج.
وقوله: {وافعلوا الخير} أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة، وحسن المعاملة كصلة الرّحِم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر مكارم الأخلاق، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى.
والرجاء المستفاد من {لعلكم تفلحون} مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحدّ الموجب للفلاح فيما حدّد الله تعالى، فهذه حقيقة الرجاء.
وأما ما يستلزمه الرجاء من تردّد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تُحِيل الشكّ على الله تعالى.
واعلم أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} إلى {لعلكم تفلحون} اختلف الأيمّة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القران.
والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في الموطأ والمدوّنة، وأبي حنيفة، والثوري.
وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة، وروى الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وفقهاء المدينة، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه.
وقال ابن عبد البر في الكافي: ومن أهل المدينة قديمًا وحديثا من يرى السجود في الثانية من الحجّ قال: وقد رواه ابن وهب عن مالك.
وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصّل منها شيء، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب، وكذلك ابن رشد في المقدمات: فما نسبه ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب.
وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مِشْرَح عن عقبة بن عامر قال: «قلت يا رسول الله فُضلت سورة الحجّ لأنّ فيها سجدتين؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما»اهـ.
قال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ليس بالقويّ اهـ، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعّفه يحيى بن مَعين، وقال مسلم: تركه وكيع، والقطّان، وابن مهدي.
وقال أحمد: احترقت كتبه فمن روى عنه قديمًا أي قبل احتراق كتِبه قُبل.
{وجاهدوا في الله حَقَّ جهاده هُوَ اجتباكم}.
الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسرّه النبي صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية.
ومعنى في التعليل، أي لأجل الله، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النارَ في هِرّة» أي لأجل هِرة، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله: «حَبَسَتْها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلًا».
وانتصب {حق جهاده} على المفعول المطلق المبيّن للنوع، وأضيفت الصفة إلى الموصوف، وأصله: جهادَه الحقّ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة، أي حق الجهاد لأجله، وقرينة المراد تقدّم حرف في كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102].
والحق بمعنى الخالص، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير.
والآية أمر بالجهاد، ولعَلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفًا قوله: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله} [الحج: 60]، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة.
{هُوَ اجتباكم وما جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وفي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شهداء عَلَى الناس}.
جملة {هو اجتباكم} إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] الخ، أي لأنه لما اجتباكم، كان حقيقًا بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها.
والاجتباء: الاصطفاء والاختبار، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه.
فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع.
وإن حمل قوله: {هو اجتباكم} على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظًا فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة.
وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110].
وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله دينًا لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
ووصفهِ الدين بالحنيف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعِثت بالحنيفيّة السّمحة».
والحرج: الضيق، أطلق على عسر الأفعال تشبيهًا للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عُرفية كما هنا. والمِلّة: الدين والشريعة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} في [سورة النحل: 123].
وقوله: {واتبعت ملة آباءي} في [سورة يوسف: 38].
وقوله: {ملة أبيكم إبراهيم} زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحْضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم» أي بقوله: {ربّنا وابْعَث فيهم رسولًا منهم} [البقرة: 129]، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ومعلوم أن للإسلام أحكامًا كثيرة ولَكِنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب {ملة أبيكم إبراهيم} على الحال من {الدّين} باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم.
ثم إن كان الخطاب موجّهًا إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المُضَرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قِبل الأمهات.
وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحُرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] بزيادة وهو أبوهم.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال: ملّة أبيك إبراهيم.
والضمير في {هو سماكم المسلمين} عائد إلى الجلالة كضمير {هو اجتباكم} فتكون الجملة استئنافًا ثانيًّا، أي هو اجتباكم وخصّكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم.
و{قبْلُ} إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه.
والاسم الذي أضيف إليه {قبلُ} محذوف، وبني {قبلُ} على الضم إشعارًا بالمضاف إليه.
والتقدير: من قبل القرآن.
والقرينة قوله: {وفي هذا}، أي وفي هذا القرآن.
والإشارة في قوله: {وفي هذا} إلى القرآن كما في قوله تعالى: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف: 4]، أي وسماكم المسلمين في القرآن.
وذلك في نحو قوله: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64] وقوله: {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} [الزمر: 12].
واللاّم في قوله: {ليكون الرسول شهيدًا عليكم} يتعلّق بقوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] أو بقوله: {اجتباكم} أي ليكون الرسول، أي محمد عليه الصلاة والسلام شهيدًا على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على النّاس، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون.
ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا، وقدمت شهادة الأمة في آية [البقرة: 143] {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدّين الذي جاء به الرسول.
فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم، وآية البقرة صُدّرت بالثناء على الأمّة فكان ذكر شهادة الأمة أهمّ.
{فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.
تفريع على جملة {هو اجتباكم} وما بعدها، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.
والاعتصام: افتعال من العَصْم، وهو المنع من الضُرّ والنجاةُ، قال تعالى: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله} [هود: 43]، وقال النابغة:
يظل من خوفه الملاحُ مُعتصمًا ** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجد

والمعنى: اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم.
وجملة {هو مولاكم} مستأنفة معلّلة للأمر بالاعتصام بالله لأنّ المولى يُعتصم به ويُرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته.
والمولى: السيد الذي يراعي صلاح عبده.
وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير.
أي نِعم المدبر لشؤونكم، ونِعم الناصر لكم.
ونصير: صيغة مبالغة في النصر، أي نِعم المولى لكم ونِعم النصير لكم.
وأما الكافرون فلا يتولاّهم تولي العناية ولا ينصرهم.
وهذا الإنشاء يتضمّن تحقيق حسن ولايَة الله تعالى وحسن نصره.
وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على الأمر بالاعتصام به.
وهذا من براعة الختام، كما هو بَيّن لذوي الأفهام. اهـ.